إعداد وترجمة: سعيد الجعفر
احتفت السويد بمرور ثمانمئة عام على ميلاد الصوفي الكبير جلال الدين الرومي من خلال مجموعة من المقالات نشرت في العديد من الصحف والمجلات. وقد اخترت أن أقدم عرضاً إلى القارئ العربي للنقاط المهمة في مقال نشر في صحيفة سفينسكا داج بلادت، ثاني أكبر صحف السويد انتشاراً. المقال نشر يوم 28 سبتمبر وهو للناقد بو جوستافسون وبعنوان «شعراء سويديون يدورون منجذبين في رقصة صوفية»، يبدأ الكاتب مقاله بالتذكير بشخص واحد يعتبره صاحب الفضل الأكبر في تقديم جلال الدين الرومي إلى السويديين، وهو إيريك هرملين الذي ترجم « المثنوي» بين أعوام 1933- 1939 في مستشفى سانت لارس للأمراض النفسية. وكان العمل هائلا في ستة مجلدات و25 ألف بيت من الشعر. لكنه مع جهده الهائل هذا كان من أكثر المثقفين المنسيين والمهمشين. وقد قال في مقدمته لهذا العمل إنه محاولة «لتحريك عقلية السويديين الجامدة». «فالنصوص الفارسية ستقوم بعملية إلهام باتجاه البهجة في الشمال البارد المتجهم». ومثلت أشعار الرومي جنوناً منظماً مبنياً على النظرة إلى الصوفي لأنه ولي مجنون يقلب الأخلاق كيفما شاء. وقد قرأ المثنوي الكثير من الكتاب السويديين من بينهم ويلهلم إيكلوند الذي رأى في الرومي مثلاً أعلى في الأخلاق والزهد لأنه يري الناس طريقاً يجرى فيه الانتصار على الرغبات الذاتية. وهنا تختلف نظرة هذا الكاتب إلى الرومي عن نظرة هرملين إليه. وقد كان التأثير العميق الذي تركه الرومي في حياة إيكلوند السبب في أن الأخير هجر الشعر في وقت مبكر ليكرس نفسه لكتابة الحكم في خضم بحثه عن موقف حياتي صلب، وجده لدى الرومي الذي أصبح بالنسبة له كالحكماء اليونان السائرين على هدى أبيقور.
ويعتقد إيكلوند أن أشعار غوته كانت ستصبح أكثر ألقاً لو كان هو قد جرب الدخول إلى عوالم الرومي والعطار بدلاً من حافظ وسعدي. فقط ربط هو ذلك بالزهد الصوفي. فالروح الزاهدة هي مركز العالم بلا منازع وهذا يذكر بالرواقيين. لقد اختار إيكلوند الرومي كمحاور له في خضم البحث عن قيم جديدة في عصرنا الخالي من القيم. ويمكن في الحقيقة قراءة النتاج النثري لإيكلوند برمته على أنه عملية مستمرة لتقديم قيم أخلاقية جديدة لإنسان القرن العشرين.
لؤلؤة الشعر الفارسي
أما الشخص الثاني الذي قرأ المثنوي فهو جونار إيكلوف. فاهتمامه بالشعر الفارسي والصوفية يعود إلى أيام الدراسة الثانوية، حين قرأ لأول مرة ديوان « ترجمان الأشواق» لابن العربي. وقد قام إيكلوف بترجمة ستة نصوص من «ديوان شمس تبريزي» للرومي إلى السويدية، وحدث ذلك فيما يسمى بالفترة السوريالية في شعره. فقد نظر إيكلوف إلى الرومي لكونه سوريالي القرون الوسطى، الذي يستطيع الإبداع من أعماق اللاوعي. كما اعتبر شعره نوعا من التدين ذي الطبيعة الإيروتيكية. وقد تأثرت مجموعة إيكلوف الشعرية «متأخر على الأرض» بتقنيات المدرسة السوريالية والرومي. وكانت النصوص التي ترجمها إيكلوف تتحدث عن توق الروح السجينة للوصول إلى الحقيقة الإلهية. فتقييد الروحانيات وحريتها كانت الثيمة المركزية في كل النتاج الشعري لإيكلوف. بالنسبة لويلي شيركلوند كان المثنوي «لؤلؤة الشعر الفارسي» ويمكن قراءة رأيه هذا في وصفه لرحلته إلى الشرق في كتابه «إلى طبس»، حيث تجوّل في بلاد فارس حتى صحراء طبس، وهي رحلة للبحث عن الروحانيات على أنغام مزمار الرومي. ويرمز ذلك كله إلى توق الروح الإنسانية إلى الله. . هنالك شخص آخر تأثر بالرومي وهو إيريك فون بوست الذي كان دبلوماسياً في أنقرة بين أعوام 1946 - 1951. ولذا فقد تعرف على الشعر الصوفي في هذه الفترة. وكانت نتيجة ذلك مجموعته الشعرية «رمضان» التي أصدرها عام 1955. ويبدو واضحاً على تلك المجموعة الشعرية تأثير الروحانيات الإسلامية المستمدة من القرآن ومن أشعار الرومي والعطار. لكن الرومي يلعب دوراً مركزياً في نتاجه. ونجد أن الفناء والبقاء يتداخلان في شعر فون بوست حيث تنطفئ الذات في غمار الحقيقة الإلهية.
في مجموعته الثانية «التلمس» التي صدرت بعد الأولى بعشرين عاماً، نجده ينظر من زاوية أخرى إلى الثيمة المركزية التي شغلت الشعر الفارسي الكلاسيكي «البحث عن الحبيبة» القريبة، وفي الوقت نفسه القصية بحيث يصعب منالها. فنجده يكتب في تلك المجموعة:
«المرأة التي أحب
ستولد بعد مئة عام
حين يكون رمادي
قد امتزج منذ زمن بالأرض
في لحظة في مساء ما
حين بلطف تمر الريح
من فوق قبري إليها
ستحس بقبلتي تنطبع على خدها».
حجاب ضد كل غريب
شاعر آخر تأثر أيضاً بالروحانيات الإسلامية هو أنجمار لوكيوس. ففي مجموعته «تحت ظلال شجرة البطم» يعتبر الصوفيين في جميع الحقب «حجاباً في وجه كل شيء غريب»، كما يكتب هو في القصيدة التي تتصدر المجموعة. ونجد من خلال قراءة هذه المجموعة كل صوفي وكأنه ولي حميم، وهكذا يصبح كل من الحلاج وابن العربي شخوصاً مركزية في شعره. لكن الشخصية الأهم لديه هي الرومي فهو بحسب لوكيوس أكبر شاعر إسلامي على الإطلاق. فحين يدور في رقصاته يصل إلى من يحبه، يصل إلى الله. ولكي يصف تلك الحالة يستخدم هو صورة متكررة في الشعر الصوفي، ألا وهي صانع الجرار الذي يدير إناء «لا تتوقف عن أن تنسكب منه خمرة الصمت».
ويختم كاتب المقال مادته بالحديث عن الكاتب السويدي الأكثر شهرة لكونه اعتنق الإسلام، والمقصود هو توربيورن سيفه. فقد اعتنق هو الصوفية الإسلامية وبالذات مذهب محيي الدين ابن العربي، معتبراً الحب والخمرة والمرأة أقانيمه الثلاثة. وهو يعتقد أن النبي محمد لم يكن متزمتاً، وأن التزمت جاء بعده بردح من الزمن من خلال مجموعة من الفقهاء، و يعتبر الصوفية الإسلامية بتوقها إلى الحرية ماهي إلا استمرار لنهج النبي. ولذا نجده في الأنتولوجيا التي أصدرها عن الشعر الصوفي الإسلامي والتي حملت عنوان «سجادة الصلاة التي سرقت» يؤكد على علاقة الإيروتيك بالروحانيات. يأتي اسم هذه المجموعة من عبارة لعمر الخيام «دخلت المسجد مرة واحدة، كي أسرق سجادة صلاة» يؤكد فيها فلسفة الصوفية في أن التعبد لا يمكن أن يكون جماعياً بل هو حالة فردية.
أتمنى أن أكون قد قدمت شيئاً في هذا العرض الموجز لجهد هؤلاء الناس القادمين من الشمال القصي يبحثون عن الحقيقة هناك في الشرق الذي يضطرم بالحب والحرب، فليس بينهما سوى راء، إن عادت إلى غمدها تجده يدور ببهجة مع الرومي.