كان مانى إيرانياً من أسرة عريقة ، وتقول الروايات : إن أمه كانت من العائلة المالكة الأشكانية وكانت لا تزال تحكم إيران حين ولد مانى ، وليس بعيداً أن يكون أبوه " فاتك " من الأصل نفسه ، وقد هاجر فاتك هذا من بلده "همذان " إلى بابل حيث أقام فى قرية وسط " ميسان " وفى هذه القرية ولد مانى سنة " 215 م " أو " 216م " .
وقد نشأ هذا الطفل الصغير مانى على مذهب المغتسلة ، ولكنه تعمق بعد ذلك فى درس أديان زمانه : الزردشتية والمسيحية ..... ، فترك مذهب المغتسلة وزعم مانى أنه " الفارقليط " الذى بشر به عيسى عليه السلام .
ويرى مانى أنه كان فى مبدأ العالم كونان : أحدهما نور والآخر ظلمة ، وأن الأول هو " العظيم الأول " أو الإله ، وهو يتجلى فى خمسة أشياء هى بمنزلة الوسائط بين الخالق والخلق وبمثابة آقانيم الأب الخمسة : الحلم والعلم والعقل والغيب والفطنة ، وفى رواية شائعة فى بلاد ما بين النهرين ، أن العناصر الشريرة الخمسة قد كونت العوالم الخمسة لإله الظلمات هى : الضباب والحريق والسموم والسم والظلمة .
ولكن لإله الظلمات هاجم النور بكل قواه حين رآه ، فنظم " العظيم الأول " دفاعه من مملكته ، وذلك بخلقه أول المخلوقات ، فدعا " أم الحياة " أو " والدة الأحياء ودعت هى بعد ذلك " الرجل القديم " ، و " العظيم الأول " و " أم الحياة " و " الرجل القديم " يكونون التثليث الأول : الآب والأم والولد ، وبعد هذا ولد الرجل القديم خمسة أبناء هم " النسيم والريح والنور والماء والنار " .
وحينما أحاط " الرجل القديم " نفسه بالعناصر الخمسة كأنها جُنة لها ، نزل ليقابل إله الظلمات الذى تسلح بعناصره الخمسة ، وقد وجد " الرجل القديم " أن عدوه أشد منه قوة فتركه يزدرد عناصره المنيرة ، فاختلطت العناصر الخمسة النورانية بعناصر الظلمات الخمسة فنتج عن ذلك عناصرنا الخمسة التى لها صفتا الطيبة والخبث .
لقد أثرت الآراء المسيحية تأثيراً عميقاً على مذهب مانى " فالعظيم الأول " و " الرجل القديم " و " أم الحياة " ، التثليث المانوى الأول ، كانوا يقدّسون كالآب والابن وروح القدُس ، وفى النصوص المانوية عبارات مأخوذة عن الأناجيل المسيحية .
وكانت تعاليم مانى مزيجاً من الديانة المسيحية والزردشتية ، وهى كما يقول " براون " : { أن تعد زردشتية منصرة أقرب من أن تكون نصرانية مزردشة } .
ومن ذلك يتضح أن خلاصة مذهبه ، أن العالم نشأ كما قال زردشت عن أصلين وهما : النور والظلمة ، وعن النور نشأ كل خير ، وعن الظلمة نشأ كل شر ، والنور لا يقدر على الشر ، والظلمة لا تقدر على الخير ، وما يصدر عن الإنسان من خير فمصدره إله الخير وما يصدر من شر فمصدره إله الشر ، فإن هو نظر نظرة رحمة فتلك النظرة من الخير والنور ، ومتى نظر نظرة قسوة فتلك النظرة من الشر والظلمة ، وكذلك جميع الحواس ، وقد امتزج الخير والشر فى هذا العالم امتزاجاً تاماً.
وهو فى هذا لا يخرج كثيراً عن تعاليم زردشت ، ولكن يخالفه بعد فى أمر جوهرى : هو أن زردشت كان يرى : أن العالم الحاضر عالم خير ، لما فيه من مظاهر نصرة الخير على الشر ، فى حين أن مانى يرى أن نفس الإمتزاج شر يجب الخلاص منه ، وزردشت يرى أن يعيش الإنسان عيشة طبيعية فيتزوج وينسل ويعنى بزرعه ونسله وماشيته ويقوى بدنه ولا يصوم ، وأنه بهذه المعيشة ينصر إله الخير على إله الشر ، وأما مانى فنزع منزعاً آخر هو أشبه ما يكون بالرهبنة .
فقد رأى مانى أن إمتزاج النور بالظلمة فى هذا العالم شر ، ومن اجل هذا حرّم النكاح حتى يستعجل الفناء ، ودعا إلى الزهد وشرع الصيام سبعة أيام فى كل شهر وفرض صلوات كثيرة يقوم الرجل فيغتسل بالماء ويستقبل الشمس قائماً ، ثم يقوم ويسجد وهكذا ، إثنتى عشرة سجدة ، يقول فى كل سجدة منها دعاء ونهى أصحابه عن ذبح الحيوان لما فيه من إيلام ، وأقر بنبوة عيسى وزردشت.
أما الأخلاق المانوية فقد وسعها سلسلة من القواعد ، وخاصة الخواتيم السبعة التى منها أربعة روحانية تتعلق بالعقائد وثلاثة تبحث فى سلوك المؤمنين ، وهذه الثلاثة هى خاتم الفم " الكف عن الكلام المؤدى إلى الكفر أو الخبث " ، وخاتم اليد " الإحتراز من كل فعل أو تصرف يغضب النور " ، وخاتم القلب " تجنب الإستسلام للشهوات الجنسية المحرمة " .
وقد لقيت دعوة مانى نجاحاً كبيراً منذ البداية ، لا فى بابل وحدها بل بين الإيرانيين ، وكان مانى ذا حظوة عند سابور أيام حكم أردشير الأول ، وقد نجح فى إدخال أخوين لسابور فى دعوته هما مهرشاه حاكم " ميسان " وفيروز .
وقد ذهب مانى إلى الهند والصين داعياً لمذهبه فى كل مكان ومؤلفاً للكتب والرسائل التى يبعثها إلى الرؤساء والجماعات فى بابل وإيران وبلاد المشرق .