وإنّ من استدلالاته التوحيديّة لله سبحانه وتعالى، يقول رضي الله عنه :
( إنّ شعار حقيقة الصنعة هي وجود الصانع، فالوجود لا بدّ له من الموجد،
وإنّ كلّ ما على وجه الأرض يشير إلى حقيقة من غير ريب أو شكّ على وجود الخالق،
لأنّ الأشياء لها بداية ولها نهاية ونهايتها الفناء كما بداية نشؤها من العدم،
وهذا نوع من الإعجاز الخارج عن التكييف والتقييد والتحكّم البشري،
فما هو إلاّ أمر علويّ بعيدا عن متناول أيدي المخلوقات بالرغم من إدراكهم للناتج عن هذه المخلوقات من القول والفعل والعمل والحال ) .
إنّ الكتب السّماويّة وعلى رأسها القرآن الكريم لم تأت لإثبات وجود الله وإنّما جاءت للدعوة لوحدانيّة الله،
ولو تصفّحتها فإنّك لا تجد مسألة وجود الله قد اتخّذت في سفر منها مكانا يجعلها هدفا من الأهداف الدينيّة،
وإنّ الخاصّية في القرآن الكريم تتحدّث عن حقيقة وجود الله عند ذوي العقائد المنحرفة
( ولئن سألتهم من خلق السّماوات والأرض وسخّر الشّمس والقمر ليقولنّ الله / العنكبوت آية / 61 )،
حيث أنّ هذا وارد بحقّ المشركين أو المنحرفين بأنّهم مؤمنون بوجود الله، وما أنزلــت
الكتب السّماويّة إلاّ لتصحيح الاعتقاد في الله، وتصحيح طريق التوحيد العقليّ .
جاء الإسلام وهو معناه الاستسلام المطلق لله سبحانه وتعالى تطهيرا كاملا للعقيدة،
فأعلن الحرب على التدخّل البشريّ في دين الله ورسالته حيث يقول الحقّ سبحانه وتعالى في محكم التنزيـل :
( إنّ الدين عند الله الإسلام / آل عمران آية / 19 )،
( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين / آل عمران آية / 85 )، صدق الله العظيم .
سئل ( أبو الحسن الشاذلي ) رضي الله عنه عن المحبّة فقال :
( أخذة من الله لقلب عبده عن كلّ شيء سواه، فترى النفس ماثلة لطاعته، والعقل متحصّنا بمعرفته،
والروح مأخوذة في حضرته، والسرّ مغمورا في مشاهدته، والعبد يستزيد فيزاد،
ويفاتح بما هو أعذب من لذيذ مناجاته فيكسى حلل القرب على بساط القربة، ويمسّ أبكار الحقائق وثيّبات العلوم ) .
سئل ( أبو الحسن الشاذلي ) رضي الله عنه عن حقيقة المعرفة
فقال : الغنى بالله عن جميع الأنام، فإن قيل : وكيف أحوج الله نبيّه إلى عدوّه ؟،
فنقول : إذ ذاك انظر إلى غناك عن السّماوات والأرض مع الحاجة إليهما، وكلّ من يحتاج إليه قطعه عنهما،
فالّذي رفع السّماء أن تقع عليك ورفع الأرض أن تبتلعك هو الّذي دفع ضرر القطيعة عنك وأوصل النفع إليك،
والله أحوجك إليه في كلّ شيء حتّى يغنيك به عن كلّ شيء،
وهو معنى قوله تعالى : ( واعبد ربّك حتّى يأتيك اليقين / الحجرات آيـــة / 99 )،
وهو العيان، فيغنيك به عن البرهان، ويمحق عنك الغفلة والنسيان
( هنالك تبلو كلّ نفس ما أسلفت وردّوا إلى الله مولاهم الحقّ وضلّ عنهم ما كانوا يفترون / يونس آية / 30 )،
فقلت : كيف أعبدك في كلّ شيء ؟، فقال : لتعطي التسليم حقّه من غير حرج، والثناء حقّه من غير عوج،
والاستهداء حقّه من غير كدر،
وهو معنى قوله تعالى : ( ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجا ممّا قضية ويسلّموا تسليما / النساء آية / 65 )،
فالتسليم حقّ الأبدان، والثناء حقّ اللسان،والاستهداء حقّ الجنان
( وإليه يرجع الأمر كلّه فاعبده وتوكّل عليه وما ربّك بغافل عمّا تعملون / هود آية / 123)
إذن فحقيقة المعرفة استغناء العارف بوصف معروفه عن كلّ شيء سواه، وهو محلّ الغنى بالله عن كلّ شـــــــيء
--------
السيد عبد الرازق
--------
و صلي الله علي سيدنا محمد و علي آله و صحبه و سلم