وكان ابنه آرثر شوبنهور في الخامسة من عمره في ذلك الوقت.
لقد نشأ شوبنهور الصغير في جو مشبع بروح العمل وكسب المال.
وعلى الرغم من أنه هجر حياة التجارة التي دفعه والده إليها،
فقد تركت أثرها في نفسه وطبعت نظرته إلى الحياة بطابع الواقعية في التفكير ومعرفة بطبيعة الناس،
ومات والده منتحراً على الأرجح في عام 1805.
وتوفيت جدته وهي مصابة بالجنون.
لقد قال شوبنهور أنه ورث من أبيه خلقه وارادته،
وعن امه ذكاءها.
لقد بلغت أمه أوج الشهرة في عالم القصص والروايات،
وغدت إحدى مشاهير كتاب القصة في ذلك الوقت.
لم تكن أمه سعيدة في حياتها مع زوجها الذي لم تساعده ثقافته على الامتزاج معها، وعندما توفي زوجها انطلقت تبحث عن الحب المتحرر
بعد أن تحررت من قيود هذه الحياة الزوجية.
وارتحلت إلى مدينة فيمار التي تنسجم مع هذه الحياة المنطلقة التي كانت تتوق لها.
وقد ثارت ثورة شوبنهور على هذا الاتجاه الجديد من أمه،
وأثر النزاع بينهما على نفسه وأثار فيها مقته الشديد للنساء الذي رافقه طيلة حياته،
ولا يسعنا هنا إلا أن نسرد فقرات من خطاب أرسلته له
يصور لنا مدى النزاع بين الأم وولدها.
حيث تقول له:
"إنك عبء ثقيل لا يطاق، والحياة معك عسيرة لا تحتمل.
لقد طغى غرورك بنفسك على كل صفاتك الطيبة.
وغدوت لا فائدة ترجى منك
لعجزك عن منع نفسك من تسقط هفوات الناس وعيوبهم."
وهكذا تم الاتفاق بينهما على أن يعيشا منفصلين بعد أن تعذرت الحياة بينهما
وأصبح شوبنهور لا يتردد على منزل أمه إلا كما يتردد عليها الضيوف والزوار من وقت لآخر.
وكانت الكلفة والمجاملة المصطنعة تطبع هذه الزيارات تماما كما يطبع التكلف المصطنع حديث الأغراب لا حديث الأم لولدها.
وقد زاد في توتر هذه العلاقة أن جوته الذي كان يحب أم شوبنهور
لانها كانت تسمح له باحضار كريستيان معه،
أن قال للأم يوماً بأنه سيكون لولدها شأن عظيم وسيغدو رجلاً مرموقاً ومشهوراً.
وقد أثارت هذه الملاحظة استياء الأم وغيرتها من منافسة ولدها لها في شهرتها،
فهي لم تسمع بظهور نابغتين في أسرة واحدة.
وأخيراً في ذروة نزاع بينهما،
دفعت الأم ولدها ومنافسها في نبوغها من أعلى درج منزلها.
ولكنه نهض واقفاً وقال لها بصوت مختنق من المرارة والحسرة،
إن الأجيال القادمة لن تعرفها، وتسمع بها إلا عن طريقه،
وهو بشهرته وذيوع صيته سيخلد اسمها وأسرع فيلسوفنا في مغادرة مدينة فيمار وعلى الرغم من أن أمه عاشت بعد ذلك أربعة وعشرين عاماً فإنه لم يرها بعد ذلك الحادث بينهما.
وقد انتهى به هذا الحرمان من عطف أمه إلى التشاؤم،
فالانسان الذي يحرم من حنان الأم وحبها ولا يعرف سوى مقتها وكراهيتها،
لن يفتنه أو يغريه بعد ذلك شيء من محاسن الدنيا ومباهجها.
وصل شوبنهور دراسته الجامعية واستوعب من المعلومات فوق ما درسه في برامج الجامعة. وسخر من الحب والعالم وألقى بهما من وراء ظهره. وقد طبع هذا الاتجاه حياته وترك أثره في أخلاقه وفلسفته. وغدا كئيباً ساخراً مرتاباً، قلقاً تستبد به المخاوف ويخشى على نفسه من شرور الناس وغدرهم. وأغلق على نفسه الأبواب. ولم يسلم ذقنه ورقبته لموسى الحلاق اطلاقاً.
ونام ومسدسه محشواً بالرصاص دائماً إلى جانبه في انتظار من تحدثه نفسه من اللصوص بالسطو عليه
وكان لا يحتمل الجلبة والضجيج وهو يقول في ذلك
: " أعتقد أن طاقة الانسان على تحمل الضوضاء والضجيج من غير أن يضيق به دليل على مقدرته العقلية ويكون مقياساً لها..
ان الضجة والجلبة تعذيب للمثقفين الأذكياء الذين يعملون بعقولهم ..
لقد سببت لي الضجة والجلبة الناجمة عن الدق والطرق عذاباً يومياً طيلة حياتي."